رامي سمير مراقب عام المنتدي
ما هي ديانتك : انا مسيحي
الابراج : الأبراج الصينية : عدد المساهمات : 1528 نقاط : 8245 تاريخ التسجيل : 16/02/2010 العمر : 49 الموقع : القاهره العمل/الترفيه : في مجال الديكور
بشكر ربنا جداااااااااااااااااااااااااا
| موضوع: أبفرودتس الثلاثاء يوليو 20, 2010 8:56 pm | |
| أبفرودتس
"لأنه من أجل عمل المسيح قارب الموت مخاطراً بنفسه لكى يجبر نقصان خدمتكم لى "
( فى 2 : 30 )
مقدمة
كان أبفرودتس قطعة من الجمال الخالد فى كل التاريخ ، والاسم أبفرودتس يعنى فى الأصل « جميل » ، « ظريف » ، « بديع » ، « بهى » وهو مأخوذ من اسم أفروديت إلهة الجمال عند الإغريق ، وربما أطلق عليه هذا الاسم لأنه ولد جميلا جداً ، ولكن أبفرودتس لم يخلِّده قط جمال المنظر ، فما أكثر ما كان الجمال كارثة على الإنسان وفجيعة كبرى له ، وقد هوى بملايين الناس إلى أعماق الجحيم ، لكن أبفرودتس أضحى خالداً لأنه كان من أروع النماذج للجمال المسيحى ، لقد أرسلته كنيسة فيلبى إلى روما يحمل عطية الكنيسة للرسول السجين هناك ، الهدية التى قال عنها : « نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند اللّه » ( فى 4 : 18 ) ... ولم تكن الهدية فى حد ذاتها هى النسيم والرائحة العبقة الطيبة ، بل كان أبفرودتس وما يزال على مر الأجيال والعصور هو الرائحة الذكية فى فيلبى وروما والتاريخ كله ، وقصته من أجمل وأمتع القصص التى تروى فى الحياة الروحية ، والأدب المسيحى ، ولعلنا نتأمل هذه القصة كما جاءت فى سطورها القليلة العظيمة المعبرة فى الأصحاح الثانى من الرسالة إلى أهل فيلبى والتى يجمل بنا أن نراها فيما يلى :
أبفرودتس وجمال رومة
كان أبفرودتس يونانياً مكدونياً من فيلبى ، واليونانيون كانوا يعبدون الجمال ، وكانت الآلهة عندهم جميلة ، فأفروديت آلهة الجمال كانت تظهر طاغية الأنوثة على أبدع صورة من الجمال الأنثوى ، وكان أبوللو يكشف عن جمال الرجولة ، بكل ما فى الرجولة من قوة وعظمة ، ... وكان زيوس كبير الآلهة يكشف عن الفخامة والجلال ، ... كانوا عباد الجمال ، ... وربما كان أبفرودتس رائع الجمال ، حلو التقاطيع ، على أجمل ما تكون الصورة المادية للجمال لكن هذا الجمال لا توجد أية إشارة إليه فى كلام الرسول إذ يغطيه دائماً ما هو أعظم وأبهر !! .. كان يوسف جميلا ، ولكن جماله الأعظم لم يكن فى الجمال الجسدى ، بل فى تفوق الجمال الروحى ، على جمال الجسد ، ولم يلفت يوسف العالم بجمال شكله ، ولكنه لفت العالم بجمال عقله الذى أدار به حياة أمة ثمانين عاماً بأكملها ، من الثلاثين « أن مات فى المائة والعاشرة من عمره ، .. وفى جمال الأخلاق المترفعة أمام اللّه والناس ، فهو ليس بالإنسان الذى يعطيه خالقه جمالاً ، فيفسد هذا الجمال بالشر العظيم الذى يصنعه أمام اللّه ، وهو ليس بالإنسان الذى يستغل هذا الجمال ضد الرجل الذى وثق به وسلَّمه كل شئ فى بيته ، كان جمال الروح أعظم ما يملأ حياة يوسف ، كان موسى جميلاً وقد زاده اللّه جمالاً بالشعاع البهى الرائع الذى عكسه على وجهه ، فجعله أروع من جمال القمر عندما تسكب الشمس أنوارها العظيمة عليه ، واحتاج موسى إلى برقع ، يغطى به هذا الجمال كلما اقترب من الناس أو اقترب الناس منه ، لأن جمال اللّه كان عليه ، .. ولكن موسى لم ير الجمال فى وجهه أو بنيانه الرائع ولم ير الجمال فى عقله الذى قاد أمة أربعين سنة يصرف أمورها بحكمة عظيمة .. ولكن جماله الأعلى كان جمال الروح فى الحياة السامية التى عاشها على مقربة من اللّه ، حتى أخذه اللّه إليه بقبلة كما جاء بالتقليد اليهودى !! .. كانت أبيجايل امرأة جميلة حسنة الصورة ، لكن جمالها الحقيقى لم يكن هو الجمال الأنثوى الذى يسحر العقول ، ويذهل الألباب ، بل كان جمال العقل فى المرأة الجيدة الفهم الحسنة التدبير ، التى تقف فى وجه الكارثة المزمعة أن تكتسحها وبيتها لحماقة زوجها ، وسوء تصرفه ، ... لكنه مع هذا كله كانت أروع جمالاً بالسمو الروحى الذى جعلها ترد داود من الانتقام مذكرة اياه بالدعوة العليا التى لا يجمل به أن يضيعها بالانتقام ، بل أن يسمو بها فى انتظار فضل اللّه الذى لابد أن يأتى ، وأخذ داود بهذا السمو الروحى ، وعف عن القتل وسما إلى العفو ، وجاءه الفرح من اللّه بعد أيام قلائل !! ..
كلا لم يكن جمال أبفرودتس مجرد جمال جسدى أو حتى عقلى ، بل كان أولاً وأخيراً الجمال الروحى ، العظيم ، كان اسمه مشتقاً من أفروديت آلهة الجمال ، وشتان بين الجمال فى المفهوم المسيحى ، والجمال عند اليونان فى المفهوم الوثنى ، كانت عبادة أفروديت مقرونة بالتلوث والدعارة والعار، وكانت هناك ألف امرأة فى كورنثوس خصصن أنفسهن من أجل أفروديت لهذه العبادة القذرة الداعرة،... وفى كل أجيال التاريخ عاش الناس وما يزالون وثنيين فى عبادة الجمال والخضوع لسلطانه البطاش الرهيب، فكم من شاب ترك دينه من أجل امرأة ، وكم من شابة باعت حياتها وجمالها فى سوق الهوى الرخيص والتبذل القبيح، .. ولكم من نذير حلقت شعر رأسه على ركبتيها فتاة ماجنة وكم من ملايين الناس هووا إلى الجحيم ، وهم أشبه بالوعول الساقطة فى الأشراك،.. أشراك الحب الآثم والهوى القبيح!! .. لكن أبفرودتس والذى ولد فى مهد الجمال الوثنى ، سطع عليه نور المسيح ، فأضحى مسيحياً يشع منه نور الحياة الإلهية المقدسة الممتلئة من جمال الروح !! ..
وعندما نقرأ قصة أبفرودتس تجد أمامك قصة رسمها فنان عظيم رائع الجمال يعكس جماله على جميع أتباعه وأشياعه ، رسمها ذاك الذى هو أبرع جمالاً من بنى البشر ، وهو يعطى جمال الحياة المسيحية لأولئك الذين يخرجهم من جمال العالم ، إلى جماله القدسى العظيم ... لقد تحول جمال أبفرودتس من المعنى الوثنى المرتبط بأفروديت آلهة الجمال ، إلى الجمال المسيحى كما رسمه المسيح بحياته . والمسيح على الدوام يفعل ذلك على أكمل وجه ، عند ما يضع فى مرسمه أولئك الذين يعيد رسمهم من جديد كالفخارى العظيم بعد أن تلف الوعاء وفسد ، فأعاده مرة أخرى إلى دولابه الخالد !! .. لعل أكبر ظلم فعله غريغورى العظيم فى مريم المجدلية ، هو أنه صور شياطينها السبعة فى صور الحياة المبتذلة التى اعتقد أنها كانت تعيشها ، وأنها كانت خليعة ماجنة ممعنة فى الفساد والاثم والشر ، حتى مر بها المسيح ، وأخرج شياطينها ليقدس حياتها له،... وقد سار كثيرون وراء غريغورى فى هذا النهج من التفسير وهم يتأملون النعمة المجملة لحياة الإنسان ... وإنى لا أعتقد بتاتاً أن مريم كانت على هذا التبذل فى حياتها الأولى ، بل كانت مجنونة كسائر المجانين الذين يفقدون وعيهم ، وأنها كانت كمجنون الجدريين الذى أفقده الشيطان وعيه وإدراكه وحياته العاملة بين الناس، ... والشيطان على أية حال وراء ضياع العقل والروح، وهو يسلب الإنسان جماله ، حتى يسترده فى يسوع المسيح المبارك !! .. وسواء كان جمال مريم مفقوداً بسبب ضياع عقلها أو تبذل حياتها ، فإن المسيح يصنع بكل إنسان ما صنعه بها عندما أعاد إليها جمال العقل والحياة ، وكساها لا بمجرد جمال جسدى ربما كان فى الأصل رائعاً وعظيماً ، بل بالجمال الروحى الأروع والأعظم!! .. إن مريم وأبفرودتس وأنا وأنت ، وسواء كنا نتمتع بجمال الجسد أم كنا عاطلين عنه ، قبحتنا الخطية ، وتركتنا أكثر سواداً من فحمة الليل، حتى جاء المسيح نور العالم ، وجعلنا أنواراً تشع بالضياء فى ظلمة الليل البهيم !! .. وشتان ما بين أفروديت والمسيح !! ...
أبفرودتس ورقة مشاعره
وهنا نقف أمام مشاعر قل أن توجد بين البشر ، ... كان أبفرودتس كما وصفه بولس : «أخى» وهى ليست مجرد كلمة تلقى جزافاً ، بل هى تعبر عن واحد من أرقى المحبين فى الأرض ، .. لم يكن أخا لبولس فى الجسد، فبولس يهودى ، وهو يونانى ، لكنه كان أخاً فى الروح ، ويوجد محب الزق من الأخ ، وفى الحقيقة لا نعلم إن كان لبولس أخوة فى الجسد أم لا،.. إن الكتاب يذكر أنه كانت له أخت ، وابن أخت ، أما أخوة فلا نعلم ، لكن بولس تحقق من قول سيده ، من ترك أخوة أو أخوات فسيجد مائة ضعف ، .. وقد وجد بولس أحباء كثيرين من الاخوة الذين كانوا على استعداد أن يضعوا أعناقهم من أجله ، وأن يقلعوا عيونهم لو أمكن فى سبيله ، كان بولس محظوطاً من هذه الناحية، ووجد فى أبفرودتس واحداً من هؤلاء الإخوة المحبين الذين كانوا على استعداد لبذل كل شئ لراحته، مهما تكلفوا هم من بذل وجهد،.. وكان أبفرودتس أخاً محبوباً من الكنيسة فى فيلبى ، الذين عندما سمعوا أنه سقط فى روما مريضاً، وأنه فى خطر امتلأوا جزعاً عليه ، مما يكشف عن مكانته من قلوبهم وعواطفهم،.. على أن رقة أبفرودتس البالغة ، والتى تكشف عن قلب من أندر القلوب حناناً وعطفاً هو موقفه من مرضه ، فهو لا يجزع لهذا المرض ، ولا يحوِّل أنظار الناس إلى مرضه وعلته بشكواه وأنينه،.. ومن الناس من إذا مرت به أزمة أو ضيق أو ألم أو اضطراب ، يملأ الجو صراخاً ، وينتظر أن تتحول كل اهتمامات الآخرين نحوه ، وتركز عليه ، .. ومن الناس أيضاً من إذا جاءته المعاناة تقسَّى قلبه تجاه معاناة الآخرين ، وآلامهم ، ومتاعبهم بل يتمنى أن يرى الناس مثل ما رأى ، وأن يعانوا مثل ما عانى وتألم ، وهو يجد تعزيته فى أن الألم هو القاسم المشترك الأعظم بين الناس،... ولكن أبفرودتس كان من نوع آخر ، .. وهو فى عمق ألمه ومرضه ، كان مغموماً لا لأنه وصل إلى مقربة من الموت الذى وقف على حافته ، بل لأن اخوته فى فيلبى مغمومون على أخبار مرضه ، وهو لا يطيق أن يراهم مغمومين أو محزونين !! .. وما أكثر ما نعيش حياة الأنانية التى ندركها أو لا ندركها - عندما نأخذ جهد الناس أو أفكارهم أو وقتهم للانشغال بمتاعبنا، مهما يكلفهم هذا من تعب أو معاناة !! تقول الأسطورة إن امرأة ذهبت إلى بوذا تحمل طفلها الصغير وتطلب إليه أن يشفيه ، وكان الولد قد مات ، ونظر إليها بوذا وإلى طفلها ، وقال : أنا مستعد أن أشفى ابنك بشرط أن تذهبى إلى قريتك وتجمعى لى حبات خردل من أشجار فى أية حديقة لمنزل لم يدخل إليه الموت ، فذهبت المرأة وعادت لتدرك مغزى كلمة بوذا وتقول : لقد أدركت أنانيتى ، فليس هناك بيت لم يدخله الموت ، أعطنى مهلة لكى أدفن ولدى !! .. كان أبفرودتس على العكس ، فى عمق ألمه ومرضه ، لا يريد أن يزعج الآخرين أو يقلقهم بهذا الألم والمرض !! ..
أبفرودتس وجسارة مخاطرته
ومن الغريب أن الرجل الرقيق المشاعر يمكن أن يكون جسوراً إلى أبعد الحدود ، كان رجلاً يجمع بين رقة الحمام ، وشجاعة الأسد ، كان رقيقاً كطفل ، وباسلا كبطل،وهذا من أدق الأمور وأصعبها فى حياة الإنسان ، إذ أن المرء فى العادة ، لنقصه وضعفه ، قلما يعرف التوازن ، ومن محنته أن صفة فيه تنمو على حساب صفة أخرى ، وفضيلة على حساب فضيلة غيرها ، فالحازم مثلا من أشق الأمور عليه أن يكون مرناً ، والناعم من أصعب الأوضاع أن يكون حازماً، وأنت لا تستطيع أن تجمع فى غالبية الناس بين النعومة والصرامة ، وبين الرقة والبسالة،.. لكن أبفرودتس كان من الشخصيات المتسعة ، فقد كان فى رقته كالحرير وفى حزمه كالسيف،.. ولعل السبب الأساسى فى هذا التوازن العجيب هو المحبة التى عندما تتمكن فى أرق الناس يمكن أن تجعلهم على أعلى مستو من الجسارة والمخاطره ، .. كانت إحدى السيدات تفزع من تصور ركوبها الطائرة ، وذات يوم وصلها النبأ أن ابنها فى البلد البعيد ، مريض وفى أقسى حالات المرض ، ... وركبت المرأة الطائرة ، ولم يعد فى ذهنها الخطر الذى يجسمه الخيال أو الوهم ، لأن كل أفكارها وعواطفها أضحت منصرفة إلى ابنها المريض المتألم فى المكان البعيد!!.. وهذا حق تعرفه المترفة المتنعمة الحنون التى تسهر الأيام والليالى دون كلل أو تعب ، أو ضن ببذل أو تضحية ، إلى جانب ابن تأخذه العلة أو تأكله الحمى ، بل كم من أباء يشقون ويضحون ويتعبون ، ويؤذيهم أن يذكرهم أحد بأنهم يفعلون هذا ، متى كان التعب من أجل ولد عزيز ، ويستوى فى ذلك العالم والأمى على حد سواء !! ... كان الأبوان لا يعرفان القراءة والكتابة ، وكرسا حياتها من أجل ابنهما ، ودات يوم جاء الأب الرقيق الحنون الحسن الطوية الدمث الأخلاق إلى أحد الرعاة وهو يقول : لا يخفى عليك أنى قضيت أنا وامرأتى شطراً كبيراً من العمر ونحن نسعى ونكد ونتعب لنتمكن من تعليم ابننا فى الجامعة ، ويسرنى أن أخبرك الآن أننا تلقينا مؤخراً بشرى فوزه بالدبلوم فأبرقنا إليه قائلين إن أباك وأمك يفتخران بك ، فورد علينا هذا الجواب ، وناولنى إياه لأقرأه فإذا به يأتى : إن برقيتكما يا والدى كادت تكسر قلبى فأرجو ألا تكتبا شيئاً فيما بعد على هذا النحو ... إنى لا أنسى أيديكما الحانية التى تصلبت واخشوشنت وتتشققت من جراء العمل الشاق المستمر . وكل ذلك ليمكنكما تعليمى فتضحيتكما العظيمة هى التى كانت سبب إحرازى قصب السبق ولذلك فالفخر بكما وليس بى !! .. فى حروب كورش الملك الفارسى القديم كان تيجرانس ملك الأرمن ، من الملوك الذين دوخوا جيوش فارس فى الدفاع عن مملكته ، واضطر كورش أن يذهب بنفسه لمقاتلة الملك الجبار العملاق حتى أسره وزوجته وأولاده ورجال بلاطه وقرر أن يعذبهم عذاباً أليماً لما سببوه له من متاعب ومعارك ، وجاء تيجرانس مصفد اليدين ، وكورش فى قصره وعلى عرشه العظيم ، ... ويبدو أن كورش أُخذ بمنظر الرجل فقال له : إذا عفوت عنك فماذا تدفع ثمناً لحريتك قال : أدفع نصف أموالى !!.. وإذا عفوت عن أولادك وماشيتك قال : أدفع النصف الآخر وقال : وإذا عفونا عن زوجتك .. وكان تيجرانس يحبها حباً مفرطاً فقال : أقدم نفسى فدية عنها ، ... تأثر كورش لهذه المشاعر وعفا عن تيجرانس وكل الذين معه ، .. وفى الطريق كان الجميع يتحدثون عن مكارم أخلاق كورش وشجاعته وشرفه وشهامته ، وظلت زوجة تيجرانس صامتة طوال الوقت فسألها زوجها : هل رأيت قصر كورش العظيم ؟! فقالت كلا !! .. وهل رأيت عرشه المهيب ؟ ، فأجابت بالنفى !! .. فسألها : إذاً ماذا رأيت وأين كانت عيناك وهو يخاطبنا بجلاله وهيبته الملكية .. أجابت : إننى لم أبصر إلا الشخص الذى كان على استعداد أن يمـــــوت من أجلى !! ..
عندما تسيطر علينا عاطفة المحبة ونمتلئ بها ، يمكن أن نفعل ما يفعله أعظم الأبطال وأقوى الجبابرة ، .. كان أبفرودتس الرقيق المشاعر جندياً باسلا مغواراً ، لم يعتبره بولس أخاً فحسب ، بل بطلا من أبطال الخدمة المسيحية إذ كان :
أولا - العامل : « العامل معى » ومهما عمل الرجل ، فهو لا يمكن أن يعمل عمل بولس ، ربما كان بولس يكلفه بهذا أو ذاك من الأعمال فى مدينة روما ، وكان بولس سجيناً ، وكان هو يستطيع أن ينوب عنه فى كثير من الأعمال ، ولكن بولس رفعه مع ذلك فى رقة بالغة وتقدير عظيم بقوله : « العامل معى » ، .. والعمل المسيحى ليس للقادة أو الأبطال أو الجبابرة أو ما أشبه ممن يأخذون الصفوف الأولى فى الخدمة فقد يكون فى آخر الصفوف من يقوم بالعمل الذى لا يمكن أن تقدره الأرض ، ولكن تعرفه السماء جيد المعرفة ... من أروع ما جاء فى مذكرات دكتور غوردون بوسطن قصة فتاة صغيرة اسمها « ونى لويس » ، دخلت عليه ذات يوم ، وكان معه اثنان من شمامسة الكنيسة ، وإذ سألها الدكتور عن الغاية من مجيئها ، أجابت بحياء وخجل بأنها تريد الانضمام إلى عضوية الكنيسة ، فقال لها أحد الشماسين : ولكنك صغيرة لا يمكن انضمامك إلى الكنيسة وعمرك لا يزيد عن ست سنوات فقالت له : كلا ياسيدى إن عمرى تسع سنوات ، فأنا أكبر مما يبدو علىَّ ، ثم توجهت إلى الراعى وقالت له : لقد ذكرت فى عظتك الأسبوع الماضى : أن الحملان يجب أن يكونوا داخل الحظيرة ، فأجابها ببشاشة : نعم ! ثم سألها عدة أسئلة أجابت عنها إجابة واعية مدركة ، فضمها إلى العضوية فى الأسبوع التالى !! .. وبعد فترة قصيرة من الزمن دعى غوردون ليصلى على جثمانها .. وذهب إلى بيتها ليرى عجباً... فهذا الفتى المقعد يبكيها بمرارة لأنها كانت تأتى له وتقدم له كتاباً مصوراً أو تفاحة أو شيئاً آخر وهو سيذهب إلى السماء تابعاً خطواتها المباركة ، ... وهذا ولد صغير مريض اسمه بوب كانت تزوره « ونى » فى مرضه وكان ترنيمها وحده هو الذى يسكته عن البكاء عندما لا يفلح شئ آخر ، ... وكان الجيران يبكونها لأنها كانت دائماً توزع النبذ عليهم وهى تذهب وتجئ، وهذه سيدة كان قد أضلها بعض المهرطقين ، وجاءت بها دموع « ونى » وتوسلاتها !!..
وهذا عم ونى الذى كان بعيداً عن اللّه ، ولكن الحياة القصيرة العظيمة لابنة أخيه ، كسرت قلبه القاسى فجاء إلى يسوع المسيح !! .. لم يخطر ببال دكتور غوردون قط أن أصغر عضو فى كنيسته يمكن أن يستخدمه اللّه بهذه الصورة العجيبة فى الخدمة المقدسة !! .. عندما دعى سبرجن ليصلى على جثمان امرأة عجوز كانت من أعضاء كنيسته ، ولم يكن لها من عمل سوى التطلع إلى الوجوه الغريبة التى كانت تراها فى الكنيسة كل أحد ، .. وكانت تعيش الأسبوع كله ، وهى تصلى لمن يبدو عليه الألم أو البؤس أو الحزن أو الحاجة أو من ينم وجهه عن شدة أو ضيق أو ارتباك !! .. وقال سبرجن عن المرأة وهو يتحدث عنها إنها كانت « أفضل مساعدة » لى ... كان أبفرودتس أحد العاملين والمساعدين الذين عملوا مع بولس وشاركوه خدمته !
إن العمل المسيحى واجب على كل مسيحى أن يقوم به ، إذ ليس فى المسيحية مكان للكسول أو العاطل أو المتفرج أو المتعلل بالنظريات الفلسفية دون مشاركة حقيقية فى الخدمة ... كان البرت شويتزر الطبيب الذى ذهب إلى أفريقيا ، وهو يحمل أعلى الشهادات العلمية ، يحفر بيديه أساس المستشفى الذى أقامه هناك ، وسأل غلاماً أفريقياً كان يتفرج عليه ، أن يأتى ويساعده ، ورفض الغلام بكبرياء وقال : أنا متعلم . ولم يكن يعلم أنه يكلم واحداً من أعظم حائزى الشهادات العلمية فى أوربا والغرب !! .. وما أكثر الذين يفعلون فعل الغلام تجاه العمل العظيم فى الخدمة المسيحية!! ..
على أن الأمر كان عند أبفرودتس أكثر من ذلك ، إذ دعاه بولس « المتجند معى » ... إنه يقف مع بولس على خط واحد من نيران المعركة ولهيبها المتقد ، ... أو فى عبارة أخرى ، إن العمل المسيحى هو عمل الجندى فى المعركة ، ... وكما أن لقوات الظلام جنودها وجيوشها فكذلك أيضاً لقوات الحق والبر والنور والسلام ، والجيوش المسيحية فيها الضباط على مختلف عملهم ورتبهم، وفيها الجنود أيضاً ، ... ولكل واحد نصيبه فى المعارك إلى الدرجة التى يقول معها الرسول لتلميذه تيموثاوس : « فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح » ( 2 تى 2 : 3 ) .. والجندية ليست نوعاً من الترف أو التطوع ، بل هى الضرورة الموضوعة على كل مسيحى ، والتى تستلزم منه أعلى درجات القوة والحماس واليقظة والجهد، وهى ليست مرهونة بساعات فى اليوم ، كما يفعل الموظفون ، وبعدها يعودون إلى بيوتهم دون أن يلتزموا بما هو أكثر من ذلك وهى ليست تكليفاً بجهد محدود يمكن أن يتوقف عنده المرء ولا مزيد عليه ، إنها الجهد فى كل مكان وزمان ، وهو الجهد الذى لا ينتهى إلا بنهاية الحياة نفسها ، وهو الجهد الذى لا يتراجع أمام صعوبة أو قسوة أو مرض أو تعب أو خطر أو موت !! ..
ولعلنا نستطيع فهم ذلك عندما نذكر ما قيل عن أبفرودتس : « لأنه من أجل عمل المسيح قارب الموت مخاطراً بنفسه لكى يجبر نقصان خدمتكم لى » ( فى 2 : 30 ) .. وبعض الترجمات ترجمت « مخاطراً » « مغامراً » .. وسواء كان الأمر مخاطرة أم مغامرة ، فهى تشير إلى النفس التى تقدم على أخطر الأعمال دون حساب للحياة أو الموت ، فإن عاش فهو فضل من اللّه ، وإن مات فهو مجد عظيم فى خدمة السيد ،.. كان أبفرودتس صورة رائعة لجنود المسيح وأبطاله ، الذين يغنون فى أقسى الظروف ، ويهتفون فى أرهب المعارك ، ويتقدمون بشجاعة عندما تتراجع أصلب الأعواد ، وما أكثر من عرفت روما قديماً منهم فى ساعات الشهادة والاستشهاد !! .. ولقد حدث أن أربعين جندياً فى أوائل التاريخ المسيحى اعتنقوا المسيحية فى عاصمة الرومان ، وإذ سمع الإمبراطور، حكم بالنفى عليهم إلى شمال إيطاليا ، فى بقعة من أسوأ البقاع وأقساها ، ومنحوا أربعاً وعشرين ساعة أن يرجعوا عن عقيدتهم وإلا تم نفيهم ، وأوكلت حراستهم لأحد الضباط ، وفى هدوء الليل استمع الضابط الحارس إلى أصوات تحملها الريح إليه ، وإذ ذهب رأى هؤلاء يصلون إلى السيد أن يعطيهم شجاعة وانتصاراً على ما يتهددهم به الإمبراطور ، وكانت صلواتهم حارة قوية جعلت الضابط يتعجب لأولئك الذين يرفضون أمر الإمبراطور لأجل سيدهم ، .. وفى الصباح جاء إلى الضابط واحد فقط من الأربعين وقال له : لقد رجعت عن إيمانى . فسأله : هل أنت الوحيد بينهم الذى فعل هذا !! .. قال : نعم ! . وإذا بالضابط يخلع ثيابه ويقدمها للرجل قائلاً : سآخذ أنا مكانك مع هؤلاء !! .. كم كشفت المسيحية عن أبطال امتلأوا بالقوة والجسارة ، وكان أبفرودتس واحداً منهم !! .. ومع أننا نلاحظ أن أبفرودتس أجهد نفسه فى الخدمة ، وعلى الأغلب كان ذلك لمساعدة بولس فى هذا أو ذاك من الخدمات الخاصة ، أو العامة ، وقد بلغ به الجهد أقصاه حتى سقط مريضاً ، واقترب به المرض من خط الموت ، ومع أن أبفرودتس كان محباً عظيماً لبولس ، ... لكنه كان يقوم على الخدمة لغرض أسمى وأعلى وأبعد ، لا من أجل بولس مهما كان حبه له ، بل من أجل عمل المسيح ... ومن أجل المسيح ، يحلو الجهاد ، ويحلو الاستشهاد !! ..
أبفرودتس والعودة من أبواب الموت
يقول الرسول بولس : « فإنه مرض قريباً من الموت لكن اللّه رحمه وليس إياه وحده بل إياى أيضاً لئلا يكون لى حزن على حزن » ( فى 2 : 27 ) ومن العجيب أن تصدر هذه الأقوال من رجل كان يرى بالنسبة له أن الموت هو ربح ، ولكن بولس مع علمه بهذه الحقيقة ، إلا أنه أضاف إلى يقينه من هذا الربح ، أنه يبقى فى الجسد من أجل الرسالة الموضوعة عليه ، وهو هنا وقد رأى جهد أبفرودتس ونشاطه فى الخدمة وحاجة العمل إليه ، إن موته لو حدث فى وقت سجنه فى روما سيكون كارثة تضاف إلى كارثة ، وحزناً يضاف إلى حزن ، .. ومهما يكن من موت المؤمنين من مجد فى السماء ، إلا أن فى بقائهم إحسان ورحمة من اللّه ، فهو رحمة بهم ، إذ يشاء اللّه أن يعطيهم ثمراً أكثر وأعظم ، ورحمة بأصدقائهم الذين يحتاجون إليهم أشد الاحتياج للمعونة والمساعدة ، ورحمة بعمل الرب الذى يحتاج إلى كل جهد وتعب وبذل وتضحية ، ... ومن الملاحظ أن اللّه لم يسمح لبولس أن يقيم أبفرودتس بمعجزة ، وما أكثر ما فعل بولس من معجزات شفاء بل حتى الإقامة من الأموات كما أقام أفتيخوس ، لكن اللّه مع ذلك سمع لصلوات بولس ، وصلوات الكنيسة فى فيلبى التى جزعت أشد الجزع عندما سمعت بخبر رجلها المحبوب، وصلوات الكنيسة فى روما حيث يرقد عندها ، وقد صور أحدهم هذه الصورة عندما بلغت فيلبى أنباء مرضه ، اتجه كثيرون بالصلاة وهم يقولون : لا يارب لا تسمح أن يموت أبفرودتس ، نحن فى حاجة إليه ، وبولس فى حاجة إليه ، وعملك فى حاجة إليه ، ... لا يارب لا يمكن أن يموت أبفرودتس !! .. وسمع اللّه الصلاة ، وأجاب عليها ، برحمته الواسعة دون أدنى استحقاق من أحد ، .. والصلاة القوية هى الصلاة التى لا تستند إلى شئ فينا أو حكمة عندنا أو حق يمكن أن نطالب به ، ولكنها تلجأ أولاً وأخيراً إلى رحمة اللّه الكريمة المحبة الواسعة !! .. إن قصة الرجل ، وجمالها الأخاذ ، وروعة ما تذيع وتعلن تعطى كل واحد منا امتيازاً لا يدانى ، وتحدياً يلاحقنا الحياة كلها : «لأنه من أجل عمل المسيح قارب الموت مخاطراً بنفسه لكى يجبر نقصان خدمتكم لى»..
| |
|