كان الأب إسحق، رجلاً بارًا وتقيًا. كان يدرس الكتاب المقدس ليلاً ونهارًا يطبّق بدقّة كل أوامره، وقد ذاع صيته وقصَدَه الناس من بعيد يستشيرونه.
فيما كان يتقدّم بالسن كان يشعر بتعاظم رغبته في أن يرى أخيرًا ذلك الإله الذي كان يخدمه منذ سنين طويلة.. ذات مساء، لم يعد يتمالك نفسه فصلّى هكذا: يا ربّ، إله آبائي، اصرف وجهك عن ذنوبي، اُنظر إليّ نظرة تعطّف، وإذا كنت قد وجدت حظوة في عينيك، فامنحني نعمة أخيرة: اسمح بأن أرى وجهك ولو للحظة واحدة، قبل وفاتي. حينذاك أرقد بنفس مطمئنة رقادي الأخير..
فسُمع من أعلى السماء صوت القدوس، تبارك اسمه، يقول: يا إسحق، خادمي الأمين، فليكن لك ما طلبته، فغدًا عند عودتك من الكنيسة، كن مستعدًا، فإنني سأومئ إليك.
غمر الفرح الأب إسحق واستعدّ للقاء ربه، بالصيام وقراءة الكتاب.. وإذ أقبل الغد، أسرع إلى مغادرة الكنيسة وقفل راكضًا إلى منزله.
كانت حركة كبيرة تدبّ في البيت، واستُقبل الرجل بهتافات الفرح: فمنذ قليل كانت كنته (زوجة ابنه) قد وضعت قبل ميعادها فأنجبت أوَّل أحفاده، وصاح به ابنه البكر من بعيد: تعال وانظرهما.. ولكنه دفعه من طريقه وهو يغمغم: حسن، حسن جدًا، سنترك الأمر لمرة أخرى، واندفع إلى السلّم المؤدّي إلى السطح حيث كان من عادته أن يصلّي، واختفى فيه بعد أن مَنَعَ بصراحة أن يزعجه أحد، حتى ولو كان ذلك بداعي حمل الطعام إليه.
فيما كان يصعد الدرجات بأسرع ما يمكن، اصطدم بأحد تلاميذه، الذي هتف به قائلاً: إن صديقي قد اتُّهم زورًا، فإن لم تأتِ لتدافع عنه، سيدينه قضاة ظالمون.. أتوسل إليك، فلنذهب كلانا دون أي تأخير! ولكنه صاح بأعلى صوته: مستحيل اليوم، وقد أخذه رعب مجنون لدى تفكيره باحتمال تفويت موعده.
ولما صار وحده على السطح، أخذ بالصلاة وانتظر.. انتظر كل فترة الصباح، انتظر كل فترة بعد الظهر.. ولكن القدوس، تبارك اسمه، لم يكن ليُظهر ذاته بعد.. فكّر: لا بد أن صلاتي تنقصها الحرارة.. قد أكون أطلت الحديث فوق اللزوم مع ابني أو تلميذي.. قد تكون أصوات الشارع تدفعني إلى الشرود.. لذا صمّم أن يسجد وأن لا يبدي حراكًا فيما بعد مهما حصل.
ولكنه عبثًا حاول سدّ أذنيه عن الصراخ والضجيج اللذين تصاعدا فجأة من السلّم، فلم يسعه تجنّب سماع الصوت الذي كان يصيح في أذنه بنبرة ثاقبة: باسم الإله الحيّ، ارحمني يا سيّد. أعطني قليلاً من المال، فأنا محروم من كل شيء وأنت غني، ولكنه لم يجب حتى ولا برفع رأسه، وكان انفراجه عظيمًا عندما سكتت أخيرًا أنّات ذلك الدخيل وقد طرده الخَدَم بضربات كبيرة من هِراواتهم.
عاد الأب إسحق إلى انتظاره المنفرد.. حلّ المساء ثم هبط الليل: ولكنه كان لا يزال وحيدًا.. وأخيرًا انفجر يأسه، فمزّق ثيابه وشكا بحرارة: ماذا فعلتُ بحقّك، يا إلهي، حتى أنك نسيتني على هذا المنوال؟ كيف يمكن أن تهمل أنت، على هذه الصورة، ما قطعته من وعود؟
عند ذلك سُمع من أعلى السماء صوت القدوس، تبارك اسمه، يقول بصراحة: لم أنسكْ، يا إسحق!! على دفعتين، أرسلتُ بطلبك.. وفي المرة الثالثة أتيتُ بنفسي.. ولكنك لم تصغِ إليّ قط، وقد تركتني أُطرَد من بيتك.