1. عدم الإدانةمادام الرب يحدّثنا عن نقاوة القلب الداخلي حتى نستطيع بالعين البسيطة أن نُعاين ملكوت السماوات، ونحيا لله لا لمحبّة المال، ونعيش بلا همّ، وفي نفس الوقت بلا تواكل حتى في الأمور الزمنيّة، فإن هذه الأمور في جملتها تمثّل حياة خفيّة لا يمكن إدراكها بالمظاهر الخارجيّة وحدها. إن كان الإنسان يحتاج إلى عمل روح الله القدّوس لكي يكشف له ذاته مع إرشاد أب اعترافه، فكيف يمكننا أن نحكم على الغير إن كانت قلوبهم نقيّة من عدمه. فالمظاهر الخارجيّة، حتى العبادة، قد تخفي من ورائها ما لا يمكن إدراكه. إن كنّا نطلب لأنفسنا الحياة النقيّة الداخليّة يليق بنا ألا نحكم على الآخرين وعلى قلوبهم التي لا يراها سوى الله نفسه. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الحكم على الآخرين أو إدانتهم يسحب قلوبنا من التركيز على ما هو لخلاصنا وبنياننا إلى إدانة الناس والحكم عليهم، فنكون كمن يترك ميّته في بيته لينوح على ميّت أخيه. والإدانة أيضًا تفقدنا طبيعة الحب نحو إخوتنا فنخسر نعمة محبّة الله لنا الساترة علينا، ففيما نحن نحكم على الغير يُحكم علينا. وكما يقول السيّد المسيح: "لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم، ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟" [1-3].
* إن كان يُحسب شرًا ألا يرى الإنسان خطاياه، فإن شرّه يكون مضاعفًا إذ يجلس على كرسي إدانة الآخرين بينما يحمل خشبة في عينيه[350].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم* أظن أننا نتعلّم من هذه الوصيّة ضرورة افتراض أحسن قصد ممكن لأعمال الآخرين التي يمكن لنا أن نشك في نيّتها[351].
القدّيس أغسطينوس* لو سقط أخوك في خطيّة الغضب تسقط أنت في خطيّة الكراهيّة (بإدانتك له). وهناك فرق شاسع بين الغضب والكراهيّة كما هو بين القذى والخشبة، لأن الكراهيّة هي غضب مزمن. فبطول الزمن اشتدّ القذى فصار بحق خشبة. فإنك إن غضبت على إنسان ترغب في رجوعه إلى الحق، أمّا إذا كرهته فلا يمكن لك ذلك[352].
القدّيس أغسطينوس* أصل الإدانة عدم المحبّة، لأن المحبّة تستر كل عيب؛ أمّا القدّيسون فلا يدينون أحدًا، لكنهم يتألّمون معه كعضو منهم، ويشفقون عليه ويعضّدونه ويتحايلون في سبيل خلاصه، حتى ينتشلونه كالصيّادين الذين يرخون الحبل للسمكة قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكة وتضيع... فإذا توقّفت ثورة حركتها حينئذ يحرّكونها قليلاً قليلاً[353].
الأب دوروثيؤس* الذي يدين فقد هدَم سوره بنقص معرفته.
الأنبا موسى الأسود* كما أن النار والماء متنافران... هكذا إدانة الآخرين لا تتّفق مع من يريد التوبة... إن رأيت إنسانًا يخطئ في اللحظات الأخيرة قبيل موته فلا تدنه، لأن قضاء الله مخفي عن البشر، فقد سقط البعض في خطايا جسيمة جهرًا لكنهم أدوا أعمالاً مجيّدة سرًا...
* الحكم على الآخرين يعتبر سلبًا للحق الإلهي بوقاحة، أمّا الانتهار (بغير حب) فيهدم نفس الإنسان.
القدّيس يوحنا الدرجي[354]* يوم تدين أخاك، تنقطع عنك نعمة الروح القدس، فتتعثّر بأخيك وتكون سبب عثرة[355].
الأنبا برصنوفيوسعدم الإدانة لا يعني السلوك بلا تمييز، فكما يقول النبي:
"ويل للقائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المرّ حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20). فالمؤمن الحقيقي إذ هو مسكن للروح القدس يحمل روح التمييز، فيرى سقطة أخيه ولا يقدر أن ينكرها أو يتجاهلها، لكنّه وهو يدرك في السقطة مرارتها إنّما يشعر بها تصدر عن الضعف البشري الذي يتعرّض هو له. أخوه يسقط الآن، أمّا فهو فمعرّض للسقوط إن لم يكن الآن فغدًا، لذا عِوض أن يدين يترفّق ويصلّي في أنّات صادقة. هذا الأمر يبرز بصورة واضحة في حياة الآباء الروحيّين والجسديّين، فالأب لا يقدر أن يتجاهل أخطاء أولاده وسقطاتهم، ولا يصمت تحت دعوى عدم الإدانة، وإنما في أبوة صادقة يفتح لهم قلبه ليسندهم على القيام من سقطاتهم. لهذا يحذّرنا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] من إساءة فهم "عدم الإدانة" فيصير ذلك علّة لتجاهل أخطاء الغير، والسلوك بلا تدبير أو حزم مع الساقطين، وإذ يقول: