أنْ يسمح الإله بموت نبي جليل من أنبيائه، ولقد جاءت هذه الفكرة بعد قرون عديدة من أحداث صلب السيد المسيح وموته وقيامته.
غير أنَّ الحقائق التاريخية التي لا يمكن أنْ تلغيها فكرة عابرة أو غير صحيحة، تحمل معاني وأبعاداً أكثر نبلاً مما يستطيع أنْ يصل إليه العقل البشري الذي يجب أنْ يتصور أنه غيور على الإله، لم يكن موت السيد المسيح دليلاً على عجز الإله عن حمايته أو إشارة إلى عدم اهتمامه بمصيره، فمحبة الإله للمسيح محبة لا تُحد ولا تُوصف، ولكنه برهان على المدى الذي يمكن أنْ يذهب إليه الإله لإظهار محبته لنا، فهو مستعد أنْ يبذل ابنه الوحيد ويُضحي به على الصليب من أجل خطاياك وخطاياي، قال السيد المسيح "لأنه هكذا أحب الإله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3)، صحيح أنَّ الإله مهتم بالسيد المسيح، ولكنه مهتم بنا وبمصيرنا الأبدي أيضاً.
هنالك اعتبارات عديدة في قضية صلب المسيح، فهو لم يكن أمراً طارئاً على خطة الإله، بل كان جزءاً من قصده وتدبيره، فالمسيح لم يُصلب في غياب الإله أو على الرغم منه، قال بطرس تلميذ المسيح ورسوله لليهود "هذا أخذتموه مسَلَّماً بمشورة الإله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال 23:2)، وقد تحدث الأنبياء الذين سبقوا السيد المسيح عن خطايا البشر، يقول داود بلسانه "ثقبوا يدي ورجلي" (مزمور 16:22)، ويقول النبي أشعياء "وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا ... والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظُلِم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه ... على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غشّ أما الرب فسُر بأنْ يسحقه بالحَزَن إذ جعل نفسه ذبيحة إثم (أشعياء 10,5:53) ويتحدث النبي دانيال عن المسيح الرئيس الذي يُقدم كفارة عن الإثم ويُقطع أي يُصلب (دانيال 26،24:9)، كما يتحدث النبي زكريا بلسان المسيح "فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له" (زكريا 10:12) ولقد علّم الرب الإنسان بأنَّ الاقتراب منه لا يكون إلا عن طريق تقديم الذبائح الكفارية والتي ترمز كلها إلى موت السيد المسيح الكفاري عن خطايانا، ولهذا كانت تُقبل هذه الذبائح.
وعندما جاء السيد المسيح وباشر خدمته، تحدث عن موته على الصليب من أجل البشر وأشار إليه مرات لا تُحصى. ولقد كان هذا هو السبب الرئيسي لمجيئه، بل إنَّ حديثه المتكرر حول موته وصلبه كان سبب سوء فهم لكثير من الناس بمن فيهم تلاميذه، وسبب عثرة لأشخاص كثيرين، غير أنَّ هذا لم يقف حائلاً بينه وبين إتمام الغرض الذي جاء من أجله، ولم ينتظر موافقة أحد على ذلك فقد أكد أنه جاء ليتمم مشيئة الإله الذي أرسله ولن يعوق عن ذلك عدم فهمهم له أو احتجاجهم عليها ورفضها كما فعل بطرس الذي قال للمسيح: "حاشاك يا رب لا يكون لك هذا" (متى 22:16).
وربما كان بطرس يرجو أنْ يكون حديث المسيح عن الآلام والإهانات التي سيتعرض لها وصلبه وموته مجرد هلوسات أو أموراً رمزية في طبيعتها، لقد صرَّح السيد المسيح بأنَّ "ابن الإنسان ماضٍ كما هو محتوم"
(لوقا 22:22)، ولا توجد رجعة عن الصليب، فلن يسمح الإله أنْ يحول عمى الناس الروحي وفقدانهم للبصيرة والفهم السليم دون تحقيق مقاصده، وإذا أراد الإله أنْ يؤجل ما يريد أنْ يفعله إلى أن يفهمه الناس أو يجدوه مقبولاً أو معقولاً أو منطقياً، فإنه لن يفعل أي شيء على الأرجح لأننا نعرف أنَّ أفكاره وطرقه تختلف عن الظلمة، بل يُلقي النور على أعماله كيفما شاء ومتى شاء ليكون له وحده المجد، قال يسوع لبطرس "لستَ تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يوحنا 7:13)، لم يكن حادث الصليب إذاً أمراً فوجئ به المسيح أو لم يكن في حسبان الإله، بل كان كما سبق أنْ قلنا الهدف الأول من مجيئه، قال "لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يوحنا27:12) ولهذا فليس غريباً على الأرض، وما يتعلق بالقبض عليه ومحاكمته وصلبه وقيامته.
لنحاول أنْ نفكر قليلاً في احتمال أنْ يكون شخص آخر قد صُلب بدلاً من السيد المسيح لنرى مدى منطقيته، كان المسيح معروفاً ووجه مألوفاً لدى آلاف الناس الذين رأوه وسمعوه سواء كانوا من محبيه أو أعدائه فتلاميذه كانوا معه ليلة القبض عليه بعد أنْ قام أحدهم وهو يهوذا الإسخريوطي بخيانته وتسليمه لليهود. ولم يحاول المسيح أنْ ينكر هويته عندما جاء رؤساء اليهود للقبض عليه، قال "أنا هو" (يوحنا 5:18-، فهو لم يشأ الهروب من الهدف الذي وضعه نصب عينيه وجاء من أجله ولقد وبَّخ تلميذه بطرس الذي حاول الدفاع عنه بالسيف فقال له "اجعل سيفك في الغمد، الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟" (يوحنا11:18)، ولقد أثبت يسوع المسيح هويته عندما سارع إلى شفاء العبد الذي قطع بطرس أذنه، فلم يكن لغيره مثل هذه القدرة وهذا السلطان.
وعندما سيق إلى التعذيب والإهانات لم يصرخ محتجاً بأنه ليس المسيح لينقذ نفسه من المصير المرعب الذي ينتظره لو لم يكن هو المسيح حقيقة، وحين استجوبوه المرة تلو الأخرى كان يلزم الصمت إلا حين كانوا يسألونه عن حقيقة شخصه وهويته، صرّح بأنه المسيح ابن الإله، وهنا قالوا: "ما حاجتنا بعد إلى شهادة؟ لأننا نحن سمعنا من فمه" (لوقا17:22)، بل إنَّ التهمة الأولى التي وُجهَت إلى يسوع، وربما تكون الوحيدة هي هويته، وقد أثبت على نفسه هذه التهمة عندما صرّح بأنه هو المسيح ابن الإله، وعندما لم تُعجبهم إجابته التي اعتبروها تجديفاً قرروا أن يطالبوا السلطات الرومانية بصلبه.
لقد تمَّ صلب السيد المسيح أمام أمه التي تستطيع التعرف عليه جيداً، وأمام بعض تلاميذه وتلميذاته ولقد خاطب المسيح أمه وأحد تلاميذه على الصليب مُبدياً اهتمامه بها وبمصيرها ، ولم يكن لدى أحد منهم أدنى شك بأنه هو المسيح، ولقد كان يكفيه أنْ ينكر هويته ليُطلق سراحه.
وإذا استمعنا إلى كلمات الشخص المصلوب، نجد أنها تفيض محبة وتسامحاً حتى للذين صلبوه، قال: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23)، ولا يَصدر هذا الكلام إلا من المسيح مما عُرف عنه من محبة جياشة وتسامح كبير.
ومن الجدير بالذكر أنَّ بطرس تلميذ المسيح واجه اليهود بحقيقة صلبهم للمسيح حيث قال: "هذا أخذتموه مُسَلَّماً بمشورة الإله المحتومة وعِلْمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال 23:2)، ومن الجدير بالذكر أنَّ اليهود لم يُنكروا أنهم قتلوا ذلك الشخص الذي ادعى حَسب رأيهم بأنه المسيح ابن الإله، ولقد سجل المؤرخ الروماني المعاصر للمسيح حادثة صلبه فهي تاريخ لا مجال لإنكاره ولا يوجد أي دليل مادي أو منطقي على هذا الإنكار. أما نظرية قيام الإله بإلقاء شبه المسيح على شخص آخر كائناً من كان فإنها تخلق مشاكل وتعقيدات يستحيل حلها، فهي تفترض أنَّ الإله قام بعملية خداع لكل البشر، وهو أمر لا يقبله أي شخص يؤمن بقداسة الإله ودوره في هداية الناس، فهو منزه عن اللجوء إلى مثل هذه الأساليب التي لا تتفق مع طبيعته حتى لو كان الغرض منها حماية المسيح وإنقاذه وإيقاع العقاب على شخص آخر سواء كان بريئاً أم غير برئ فإذا كان برئاً كانت الجريمة التي ارتكبها الإله مزدوجة، وإذا كان غير برئ فإنَّ الآخرون لم يتعظوا بما حصل له لأنهم على غير علم به، لقد كان بإمكانه، وهو القادر على كل شيء، بأن يستخدم طريقة أقل تعاسة من هذه الطريقة لو أراد، والمشكلة الأخرى هي أنه لم يوّضح حقيقة الأمر للناس، فتلاميذ المسيح ظلوا على اعتقادهم بصلبه، وامتدت هذه الكذبة واستمرت قروناً عديدة تاركة الناس في ظلام وجهل قبل أنْ يتحرك الإله لتصحيح هذا الخطأ، فما ذنب هذه الملايين التي عاشت وماتت وهي تؤمن بوَهم؟ وما مصيرهم؟.
ثم إنْ كان الإله قد أرسل المسيح لغاية هداية الناس ونشر النور والحق، فإنه يكون قد فشل فشلاً ذريعاً في مهمته، فالإله لم يحقق ما قصد إليه من وراء إرساله السيد المسيح، بل على العكس من ذلك، فإنَّ حال الناس يكون أفضل بدون هذه البلبلة التي لا لزوم لها والتي ستمتد إلى ما شاء الإله، وما هي الرسالة التي حاول الإله توصيلها للناس بعد هذه الحادثة التي لم تحدث، ألم يكن الإله يعلم –وهو العليم- بأن هذا الأمر سيحدث للمسيح، فلماذا لم يحتط لهذا الأمر ويأخذ التدابير اللازمة؟
لقد آمن المسيحيون على مر العصور بحقيقة موت المسيح على الصليب من أجل خطايا البشر، وقيامته من بين الأموات بعد ثلاثة أيام ، وهذا هو جوهر إيمانهم، وقد ذاق الكثيرون منهم الاضطهاد والعذاب وحتى الموت في سبيل إيمانهم الثمين.
من السهل أنْ تنكر وتتَّهم ولكن هل تستطيع أنْ تفكر وتبرهن مقدِّماً الدليل؟ لماذا لا تكون البينة على من ادعى، بدلاً من مطالبة المتهم بإثبات براءته؟
لماذا الصليب له أهمية خاصة مع أنه الأداة التي مات عليها السيد المسيح؟
عندما نتحدث عن الصليب فإننا لا نقصد الخشبة التي صلب عليها السيد المسيح أو المعدن الذي يلبسه بعضهم على صدورهم، وإنما نقصد عمل الفداء الذي أتمَّه السيد المسيح الذي صُلب من أجلنا.
فلقد مات من أجلنا دافعاً عنا ثمن خطايانا وآخذاً عنا عقابنا الذي نستحقه بسببها، ألا وهو الهلاك الأبدي في الجحيم، فالصليب هو تعبير عملي قوي عن محبة الإله لنا نحن البشر، تقول كلمة الإله "لأنه هكذا أحب الإله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا16:3)، إذاً فتعلقنا بعمل الفداء الذي أكمله السيد المسيح على الصليب هو تجاوب إيجابي منا مع محبة الإله المُعلنة لنا، فهذا العمل فخر لكل مؤمن حقيقي يُدرك قيمة صلب المسيح، فلولا صليب المسيح (أي صلبه) لما أمكن لنا أنْ نقترب إلى الإله وأنْ تكون لنا علاقة معه، تقول كلمة الإله "ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أفسس 13:2) ولبقينا في عداوة مع الإله بسبب خطايانا، يقول الكتاب المقدس عن الإله "وأنْ يصالح به (بالمسيح) الكل لنفسه عاملاً الصُلح بدم صليبه" (كولوسي 20:1).
ولقد افتدانا أيضاَ يسوع مما يسميه الكتاب المقدس "لعنة الناموس" أي اللعنة التي يستحقها الإنسان بسبب كسره لوصايا الإله وشريعته وناموسه والتي يَهلك بسببها في الجحيم، تقول كلمة الإله "... المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنةً لأجلنا لأنه مكتوب : ملعون كل من عُلق على خشبة" (غلاطية 13:3).
وهكذا فقد أخذ المسيح مكاني لكي آخذ مكانه وأصبُح كامل البر أمام الإله بفضل المسيح على الصليب، تقول كلمة الإله " لأنه جعل الذي لم يعرف خطية (أي المسيح) خطيةً لأجلنا لنصير نحن بر الإله فيه" (2 كورنثوس 21:5) لهذا يقول بولس رسول عن السيد المسيح بكل ثقة "فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلاطية14:6)، لقد رأى بولس التقاء العدل الإلهي بالرحمة على الصليب، وأدرك بإيمانه فيه أنَّ خطاياه قد غُفرت وأنه قد تبرر وتطهر وتقدس بدم المسيح الذي سال على الصليب.
إنَّ كثيرين يحاربون الصليب لأنهم لا يفهمونه على حقيقته، يحاربونه مع أنه أملهم الوحيد في الخلاص من العذاب الأبدي والحصول على الحياة الأبدية، فالصليب هو الطريق الوحيد الذي اختاره الإله لفداء البشرية، تقول كلمة الإله "فإنَّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الإله للخلاص" (1 كورنثوس 18:1).
أعود فأؤكد بأننا لا نقدس الخشبة التي صُلب عليها السيد المسيح ولا نعبدها، بل نحن نعظم ونمجد السيد المسيح المصلوب لأجلنا، ولو كنا نمجد أداة الصلب لتحولنا إلى عبدة أوثان، وهذا ما لا نفعله أو نرضاه، إننا نقدِّر إحسان المصلوب إلينا ومعروفه معنا، ولهذا فإننا نفتخر بشخصه وعمله على الصليب من أجلنا، فالصليب يُذكرنا بعظمة خطايانا وقسوتها وبشاعتها، تلك الخطايا التي تركت ابن الإله يموت من أجلها وهذا اشتركنا جميعاً في صلبه، إننا نتذكر أيضاً محبة الإله غير المحدودة لنا واستعداده للتضحية بابنه من أجلنا.
إنَّ نعمة الإله مقدمة لنا مجاناً في صليب المسيح ودمه الذي يغسل خطايانا ويطهرنا من كل إثم.
وإنَّ رفْضِنا لهذه النعمة احتقاراً للإله نفسه، تقول كلمة الإله "فكم عقاباً أشر تظنون أنه يُحْسب مستحقاً من داس ابن الإله وحَسِب دم العهد الذي قُدِس به دنساً وأزدرى بروح النعمة!" (عبرانيين 29:10).
فهل نحن مستعدون لقبول الصليب طريق الغفران الوحيد المقبول لدى الإله، أم سنرفضه ونقبل دينونة الإله؟.