نطاق الجدران الأربع
أود أن أخبرك الآن أن الروحيات في الصحراء والجبل لها طابعها الذي يختلف عن طابع الروحيات في المدينة فمن أهم القيود التي تتعب العابد في المدن، هي نطاق الجدران الأربع..
ولقد جربت هذا بنفسي، كنت منذ سنوات في معسكر في ألماظة وهى بقعة صحراوية تقع على بعد أميال من ضاحية مصر الجديدة. وكنت متعودا أنا وأحد أخوتى من مدارس الأحد أن نصعد على أعلى رابية في تلك الصحراء لنقضى وقتا في الصلاة والتأمل. وكانت مصر الجديدة، تلك الضاحية الفخمة في مبانيها وشوارعها وتنظيمها وسكانها أيضاً، تظهر لنا على بعد كشئ ضئيل تافه على مرمى النظر في خط الأفق. ولم يكن يبدو منها غير بعض أضواء بسيطة: لعاملين بسيطين هما عامل البعد وعامل الارتفاع. وكنا نشعر أن روح كل منا انطلقت من احترام الطول والعرض والارتفاع، والفخامة والضخامة. والتنميق والترويق، وتساوى أمامها القصر العالى والبيت الصعير، أذ لا يبدو شيء من كليهما. بل كنا نشعر بسعادة ولذة روحية ونحن جالسان على الرمل فوق تلك الرابية المرتفعة، سعادة لم نجدها في المدن في يوم من الأيام.
وفي عطلة من المعسكر رجعنا إلي القاهرة وأقول لك الحق يا أخي الحبيب أنني انزعجت من هذه العاصمة الصاخبة. وكنت أسير في الشوارع وفي رأسي وإذني بركان ثائر من ضجيج الناس وصوت السيارات والترام ووسائل المواصلات المتعددة. وعرفت وسط هذا الصخب أنني لست بقادر أن أفكر تفكيراً منطقيا مرتبا متلاحقا، كما كنت أفعل فوق الرابية المرتفعة.
وعندما أغلقت علي باب مخدعي ووقفت للصلاة، لم أستطيع أن أصلي، كانت الجدران الأربع التي للغرفة بمثابة حاجر منيع يفصلني عن التمتع بالله. وأقول لك في صراحة أنني خرجت من غرفتي دون أن اصلي وسرت بعيداً بعيداً أبحث عن فضاء هادئ مرتفع لا أرى فيه إمامي الأبنية والمنشآت، وتصغر فيه نواحي العمران والمدينة، وبعد حوالي الساعة من السير وجدت مكانا فيه شيء ضئيل مما أطلب، وهكذا رجعت إلي منزلي ضيق النفس مشتاقاً إلي رابيتي المرتفعة مرة أخري...
وانقضت أشهر المعسكر ورجعنا إلي العاصمة، ووجدت نفسي مضطراً إلي تعود الصلاة بين الجدران الأربع. ولكن ذكريات تلك الرابية المرتفعة ما زالت خالدة أمام عيني حتى اليوم، ولكي أحصل علي جانب من التعويض كنت – بعد أن أنتهي من درسي في مدراس الأحد، أصعد وأخوتي الشبان إلي سطح الكنيسة المرتفعة لنلقي نظرة علي القاهرة، فنراها أيضاً في ظلمة المساء شيئاً ضئيلاً لا تبدو منه إلا أشباح أبنية تلمع فيها تلك النقط البيضاء المضيئة.
أن روحك يا أخي الحبيب تود أن تنطلق هي أيضاً كالطير من غصن إلي غصن، تود أن تصير كالملائكة الذين يسبحون في السماء بغير روابط أو قيود. وأن لم تستطع هذا باستمرار، فلا أقل من تهيئة فرص في بعض المناسبات...
إن هذا يجعلني أتخيل التأمل أغزر وأوفر بالنسبة إلي البحار والفلاح وسكان الجبل وساكن الصحراء.. ويخيل إلي أننا سنصير كذلك عندما نتخلص من نطاق الجسد ونصعد إلي فوق، حيث الله والملائكة والقديسون. وقد تناولت هذا الموضوع مع أبي الراهب، فحدثني عن اختبار روحي آخر، حكي لي كيف انفرد في قلايته ثمانية وعشرين يوما في مستهل حياته الرهبانية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). قابعا بين الجدران الأربع، لا يري أنسانا ولا يتصل بإنسان، مجاهد في صراع عنيف بينه وبين الله ونفسه، وكيف كانت تلك الحقبة من الزمن فترة {غربلة} قاسية لنفسه، استطاعت فيها الروح أن تنطلق شيئا فشيئاً من قيودها الكثيرة إلي الله، وتغصب منه الوعود اغتصاباً...
وبعد ذلك خرج الراهب من قلايته وقد تساوت أمامه الجدران واللاجدران...
وهنا أقدم لك في هذا الموضوع مرحلة من مراحل الروحانية أسمي وأعمق. كانت المرحلة الأولي هي التبرم بالجدران الأربع، أما هذه فهي مرحلة عدم الإحساس بالجدران الأربع ، حيث تجلس في غرفتك. وتستغرق في صلاتك أو تأملاتك أو قراءاتك، حتى لا تعود تشعر بكل ما حولك، وإنما تعيش في عالم آخر يسمو علي الحس، لا تعرف فيه هل أنت في غرفتك أم في فضاء الدير، هل قلايتك لها جدران أن ليس لها، بل أقول أنك في تلك الحالة لا تستطيع أن تميز هل انتقلت إليك السماء وأنت علي الأرض، أم انتقلت وأنت علي الأرض إلي السماء؟ بل دعني أهمس في أذنك يا أخي الحبيب أن هناك أشخاصا لم يستطيعوا أن يدركوا – في حالات كهذه – هل هم في الجسد أم خارج الجسد كما حدث للقديس بولس الرسول، وكما روي عن القديس يوحنا الأسيوطي والشيخ الروحاني أيضاً.
يتدرج بي هذا الموضوع، موضوع انطلاق الروح من المكان إلي تأمل آخر متعلق به وهو {الرؤي}.
سمعنا في هذا الأمر من قبل عن اختبارات القديسين يوحنا الحبيب والقديس بولس الرسول، ويعوزنا الوقت أن استرجعنا اختبارات الأنبا انطونيوس والأنبا شنوده وغيرهما من القديسين الذين انطلقوا من أماكنهم وعاشوا بالروح في أجواء وبيئات أخري رأوا فيها أشياء عجيبة لا ينطق بها.
أنما أذكر هنا قصة رواها لي أحد أخوتنا الأحباء عن كاهن ممتلئ بالروح كان واقفا يصلي في المذبح فلما وصل في صلاته إلي عبارة {ورفع نظرة إلي فوق..} رفع نظره هو أيضاً، وسادت الكنيسة فترة من الصمت العميق، ومرت دقيقة ودقيقتان ودقائق كثيرة والكاهن القديس ناظر في صمت إلي فوق في دهشة وذهول، وطال الوقت جداً والشعب يتأمل كاهنه المبارك في صمت، وبعد فترة أخفض الكاهن بصره، وأكمل صلاته في عمق وحرارة دون أن يحس فترة الصمت التي مرت به، ولما أخبره أحد خواصه – بعد القداس – بما حدث وطلب منه إيضاح الأمر، اضطرب ولم يجِب، ولما أكثر عليه الإلحاح قال انه نظر إلي فوق فإذا بالكنيسة وكأنها بلا قبة ولا سقف، وإذا به يتأمل سلما طويلا يصل المذبح بالسماء. فتأمله لحيظات كأنها جزء من الدقيقة ثم أكمل صلاته...
يتحدثون بعد ذلك عن الرهبنة كطريق إلي الخدمة، وما أري الرهبنة إلا طريقا إلي السماء تساعد فيه الخلوة والتأملات والجهاد المستمر علي دوام انطلاق الروح حتى تتحد بالله.
يخيل إلي يا أخي الحبيب أن هناك أشياء لأقولها له في هذا الموضوع.